ليبيا: “صندوق الرمل” أم “بوابة المتوسط”؟ – تقديم: مفتاح العلواني/ قاضٍ وشاعر

هنا.. حيث تكتب الدكتور ريم كتابها.. ستجد نفسك وأنت تفتتحه كأنك تفتتح رواية عظيمة..

تقديم الكِتاب: مفتاح العلواني – قاض وشاعر.. البيضاء/ ليبيا

 

أن يؤرخ المرء يعني أن يسرد تاريخاً جاهزاً يحتاج من يوثقه.. وأن يكتب بحثاً علمياً يعني أن يفتش عن أسباب مشكلة ما وحلولها.. لكنه حين يجمع بين هذا وذاك فإنه يعني أن يكون ملزماً أن يكتب بحرفية كبيرة تمكنه من خلط التاريخ بالعلم.

 

هنا.. حيث تكتب الدكتور ريم كتابها.. ستجد نفسك وأنت تفتتحه كأنك تفتتح رواية عظيمة.. حيث سيأخذك السرد التاريخي في رحلة تستحضر فيها أحداث كثيرة ربما لم تحط بها كلها.. لكنها على الأقل أعطتك ملخصاً مركزاً عن أهم ما حدث خلال حقبة زمنية مرت بها ليبيا قبل أن تضعك بسلاسة في طريق بحثها الذي ستعرف فيما بعد أنه قد بذل فيه مجهود فكري وعلمي وجسدي ومادي كان كفيلاً بإخراجه بهذه الصورة الجميلة.

 

ليبيا “صندوق الرمل” أم “بوابة المتوسط”؟.. هكذا وسمت الكاتبة كتابها.. مستلهمة هذا الاسم من مقالة دونها  السياسي والصحفي الإيطالي «جايتانو سالفيمينى”.. متأففا فيها من تكلف الحكومة الإيطالية الكثير نتيجة مطامعها الليبية..  آخذة من هذا الوصف بوابة لها أيضاً للولوج صوب الصراع الإيطالي الليبي الذي امتد لسنوات.. واحتشد بالصراعات السياسية والمعارك والمواجهات المباشرة المسلحة.. منعطفة في حنايا سردها صوب المواقف الدولية والشخصية.. تحاول خلالها فهم القصة وتحليلها ووضع الحالة الليبية آنذاك على “الزوم” ليعرف القارئ أن هناك من هو قادر على إيصال الصورة الحقيقية ولو بعد ردح من الزمن.

 

وحدهم المهاجرون يتجاوزون حدودهم من غير قصد.. أو هكذا ستتجلى لك الحقيقة وأنت تتبع خيوط الهجرة المتشابكة.. بينما تتخذ الكاتبة أسلوباً قد يقترب من الأسلوب الأدبي وهي تضعك في أول كل خيط بسلاسة تنبيك عن إحاطتها بموضوع الهجرة غير الشرعية من وإلى صندوق الرمل -ليبيا- كما وصفها “جايتانو”.. حيث ستجد نفسك تقتفي أثر المهاجرين.. تراهم.. تسمع أنفاسهم المنقطعة وهم يحاولون الدخول أو الخروج.. تضعك في وسط أماكن إقامتهم.. تزيل عن عينيك غشاوة عدم فهمك لهذه الظاهرة بشكل أدق.. تتدرج في بيان كل ما كان سببا في تفاقمها.. تجري اللقاءات المطولة مع المسؤولين وغيرهم.. تتجشم عناء السفر مسافات طويلة لأماكن خطيرة.. وتمر في سبيل ذلك بمناطق لا يجب أن يمر بها أشخاص مدنيين في الغالب إلا بحذر شديد.. لا سيما في ظل الفوضى الأمنية التي سادت البلاد.. خاصة في حدودها مع غيرها من الدول.. وسترى ذلك جليا حين تضعك الكاتبة في وسط تلك المخاطر عن طريق وصفها لك باحترافية أدبية قبل أن تكون علمية.. ومن هنا ربما ستعرف لما خرج هذا العمل بهذه القيمة العلمية الكبيرة.. والصورة البحثية القادرة على فهم المشكلة فهما انتهى بها إلى وضع أهم الأسباب لها.. ومن ثم استخلاص النتائج الدقيقة.. مردفة ذلك بأهم الحلول التي يمكن انتهاجها في سبيل إيقاف هذا التدفق الإنساني غير المشروع.. أو حتى التخيف منه حدته.

 

محطة محطة ينقلك الكتاب.. دون استعجال الرغبة في إيصالك للنتيجة قبل أن تحيط بالمشكلة.. فتجد نفسك تخوض غمار العلاقات التاريخية الليبية الإيطالية.. وما اعتراها من توتر أو تحسن خلال ذلك.. ماراً بطريق الهجرة بين الدولتين وما تم تشريعه وتقنينه فيما يتعلق بذلك.. مطلعاً على أهم الاتفاقيات التي أبرمت في هذا الشأن.. ثم ينعطف صوب المهاجر نفسه وحالته ووضعه وصورته لدى الحكومتين الإيطالية والليبية.. شارحة لك كيفية التعامل معه وأبرز المشاكل التي تواجهه.. والعراقيل التي تعترض المنظمات الحقوقية والمساعي الدولية في سبيل التحسين من وضع المهاجر ومنع امتهانه.. وأخيراً ينعرج بك -الكتاب- صوب مدينة سبها الليبية.. والتي ارتأت الكاتبة أنها المثال الأنسب لفهم الحالة الليبية فيما يتعلق بالهجرة والمهاجر.. وقد وصلتها عبر رحلة برية خطيرة وشاقة.. لتنقلك مباشرة إلى وسط المشكلة البحثية.. وتضخ إلى عقلك الكثير من المعلومات والمشاهد والآراء والاستطلاعات حتى مع المتاجرين بالمهاجرين والمهربين لهم أنفسهم.. فلا تكاد تنتهي من قراء الكتاب إلا وأنت قادر أو شبه قادر على شرح المشكلة برمتها كأنك الباحث نفسه.

 

كتبت مرةً أن “طريق المهاجرين طويلة.. وهم يهونونها بضحكٍ يشبه ضحك سجين هاربٍ بلا وجهة..  يبللون رؤوسهم بموجةٍ عابرة كأنما يستعطفونها.. أو بقبلٍ لأطفالهم في ذاكرتهم المشتعلة.. يرددون أناشيد أوطانهم لأنهم يخافون نسيانها عند خط النهاية”.. وها أنا الآن وقد أكملت هذا الكتاب.. واستمتعت به سرداً وبحثاً ومعلومة.. أردد هذا النص مجدداً.. وأؤكد بعد انتهائي من هذه الرحلة المقروءة أن طريق المهاجرين أطول مما يتوقعه المرء.. ليس لأن المسافة بعيدة.. بل لأن قلوبهم ربما قد تركوها في أوطانهم القديمة.. وذهبوا بأجسادهم بحثاً عن قيمتهم الإنسانية.. أو عما يسدون به رمق أيامهم اليابسة.. حيث ستغلق الكتاب وأنت تمني النفس لو أن الكاتبة لم تتوقف عن بحثها واستكشافها.. ليس هذا فقط.. بل حتى وإن لم تكن مهتما بهذا الشأن في السابق.. ستجد نفسك تتابعه بشغف.. وتبحث عن أخباره.. ذلك أنك صرت أعلم بخفاياه أكثر من ذي قبل.

 

وأخيراً.. وإنني إذ قدمت لهذا الكتاب.. فإنني ممتن للكاتبة والباحثة على هذه الوجبة العلمية القيمة.. وأشكر كل جهدها الواضح في سطور الكتاب.. وشاكر لما منحتني إياه من نظرة قريبة لواقع لا نكاد نعلم منه إلا ما يمر بآذننا عبر نشرات الأخبار.

 

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.