“صاحبة الجوسسة” في میزان العلم والدین.. ھل الأطفال مجرمون بالفطرة؟

لو أننا فضّلنا العُرف والعادات والتقاليد عن كلام الله فهُنا سأقولها بصراحة: أنا لست مِنكم وأنتم لستم منّي.

ريم البركي

يلومني المقربون مني دائمًا لأنني أُبدي رأيي في قضايا سياسية واجتماعية شائكة، وينصحونني بالتركيز على مسيرتي العلمية والعملية. ولم يكن ينقصني اشتباكٌ جديد بالتزامن مع ما أواجهه بالفعل من تطاولٍ يُقدِم عليه متطرفو كرة القدم، لكن الأمر في هذه المرة مس الأطفال؛ من لا يستطيعون التحدث للدفاع عن أنفسهم أمام سيدة تتهمهم بالخيانة العظمى وهم في المهد، لمجرد أن الأب أجنبي والأم ليبية.

لا يهمني الأمر بشكل شخصي، فأنا ليبية، ولا أفكر أن أنجب يومًا ما طفلًا من أب غير ليبي، لكنني الآن أتذكر مقولة شهيرة للحقوقي والثائر نيلسون مانديلا: “ليس حرًا من يُهان أمامه إنسان ولا يشعر بالإهانة”. وأعتبر وقوفي في وجه القانون المجحف الذي أصدره عبد الحميد الدبيبة، رئيس الحكومة منتهية الولاية، في 19 أكتوبر الماضي – كلمة حق في وجهه ووجه كل من تسول له نفسه دعم قانون ظالم كهذا، يجعل أبناء الليبيات غُرباء في بلد أمهم مشكوك في ولائهم، أمهم التي بذلت طول سنوات شبابها كل جهدها في سبيل دعم أسرتها ومجتمعها.

وقد صدر قبل ذلك قانون الجنسية الليبي، رقم 24 لعام 2010، وجاء فيه: “الليبي هو كل من ولد لأب ليبي، أو ولد في ليبيا لأم ليبية وأب مجهول الجنسية. وأولاد الليبيات المتزوجات من غير الليبيين قد يُمنحون الجنسية، لكن ليس تلقائيًا. ولا يمكن لهؤلاء الأولاد طلب الجنسية إلا بعد بلوغهم سن الأهلية”. وهو أيضًا قانون فيه عوار كبير.

وإن طبقنا ذلك المنطق السخيف، ما ضمان أن الأجنبية التي أوقعت ابننا الليبي في شباك حبها حتى اتخذ قرار زواجها وإنجاب أطفال منها ليست جاسوسة وتُجند أبناء ابننا الليبيين؟ أو مثلًا ليس لديها أطفال آخرين من علاقة أخرى ويكون إخوة أبنائنا حاملين لأديان أخرى أو جنسية معادية لديننا؟

ما أشعل الجدل مجددًا، ظهور سيدة تدّعي أنها أكاديمية وناشطة في حقوق الإنسان، في حلقة تلفزيونية، أطلقت فيها أحكامًا أخلاقية على أبناء الليبيات من أب أجنبي، حتى إن كان طفلًا، ورأت أنه يحمل داخله جينات ستحوله لا محالة إلى جاسوس خطر على الأمن القومي.

وقبل أن أوضح كيف خالفت تلك السيدة القانون الليبي أكثر من مرة، أود أولًا أن ألفت نظرها إلى نص الاتفاقية الأممية لحقوق الطفل -بما أنها تسمي نفسها ناشطة حقوقية- وأذكرها بأن الاتفاقية ضمنت لأي طفل حق الحياة والرعاية دون تمييز، وفي المادة السابعة جاء: “يُسجل الطفل بعد ولادته فورًا ويكون له الحق منذ ولادته في الاسم والجنسية”.

يبدو الطرح مُرعبًا جدًا، لكنها كلها أفكار يمكن طرحها والتفكير فيها – إن أطلقنا العنان لخيالنا الذي تُسيطر عليه نظرية المؤامرة – لكن الله عزّ وجل قال: “خلقناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا” فرفع عنّا عناء كبيرًا واحتكر لنفسه معرفة النوايا، “وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ”.

هل كل رأي وجهة نظر؟

تعريفنا السطحي لحرية الرأي يجعلنا نعتقد أن كل رأي وجهة نظر بغض النظر -لسطحية بعضنا- عن تعارض وجهة النظر هذه مع الطبيعة البشرية والسنة النبوية والشريعة الإسلامية، يقول الله عزّ وجل: “يا أيها الذين آمنوا لا تحرّموا طيبات ما أحلّ الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين”، لذلك فإن وصم أبناء الليبية المتزوجة من أجنبي وتهديدهم بتُهم مُعلبة جاهزة في الحقيقة بمثابة منع الليبية من الزواج بأجنبي وهو تحريم صريح لشرع الله الأمر الذي يُعد من الكبائر إلا لو أننا فضّلنا العُرف والعادات والتقاليد عن كلام الله فهنا سأقولها بصراحة: أنا لست مِنكم وأنتم لستم مني.

الجهل بمعنى كلمة «طائفة» قاد تلقائيًا إلى وصم أبناء الليبيات، والتحريض ضدهم، بوصفهم طائفة غير آمنة.

خلال الحلقة، وصمت “الناشطة الحقوقية” بشرًا مثلها، من بني جلدتها، ويؤمنون بالإسلام، بأنهم جواسيس، فقط لأن آباءهم ليسوا ليبيين، وتسري التهمة حتى إن كانوا أطفالًا.

كان أول خطأ وقعت فيه السيدة المشار إليها، هو الربط بين الأصل والانتماء، وهي معضلة قبلية شديدة القدم، تجاوزها العالم منذ سنوات طويلة، فبعد حربين عالميتين، وحروب مستمرة بين الجواسيس، أصبح العالم كله يدرك أن وطنية كل شخص تتحدد بمدى التزامه بواجباته تجاه مجتمعه، ومدى احترامه للقوانين، وليس بانتمائه العرقي، وإلا فكيف أصبح رئيس أمريكا أسود البشرة؟ وكيف يحكم الهند رؤساء ينتمون لأكثر من ديانة؟ فقط لأن لا أحد فيهم يحاول تطبيق أفكاره أو معتقداته على الناس أو اتهامهم في وطنيتهم، بل يلتزم بواجباته وبالقانون والدستور فقط.

لكن يمكن أن يرد أحد بأن كل دولة من حقها وضع شروط خاصة للحصول على الجنسية، وهذا صحيح، لكن تلك الشروط تكون فقط للتأكد من خلفية المنضم الجديد للمجتمع، ومدى التزامه بالقانون، ومدى قدرته على تحقيق إضافة للبلاد، وليس لأنه خائن هو وأبناؤه. وإلا – وإن طبقنا ذلك المنطق السخيف، ما ضمان أن الأجنبية التي أوقعت ابننا الليبي في شباك حبها حتى اتخذ قرار زواجها وإنجاب أطفال منها ليست جاسوسة وتُجند أبناء ابننا الليبيين؟ أو مثلًا ليس لديها أطفال آخرين من علاقة أخرى ويكون إخوة أبنائنا حاملين لأديان أخرى أو جنسية معادية لديننا؟

يبدو الطرح مُرعبًا جدًا، لكنها كلها أفكار يمكن طرحها والتفكير فيها – إن أطلقنا العنان لخيالنا الذي تُسيطر عليه نظرية المؤامرة – لكن الله عزّ وجل قال: “خلقناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا” فرفع عنّا عناء كبيرًا واحتكر لنفسه معرفة النوايا، “وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ”.

صراحة ما يُقلقني حقًا هو كيف يمكن أن يتجرأ شخص ويُهدد الرأي العام بالقيادة العامة لمجرد أنه انتقد آراءه التي تتصادم مع حقوق الطفل والمرأة وشريعة الإسلام التي أحلّت للمسلمة الزواج بأي مسلم من أي مكان؟

والغريب أن تلك السيدة لا تعرف أن أي شخص يخضع للتجنيد من أي جهاز استخباري، تكون أسهل مرحلة في حياته هي استصدار أوراق ثبوتية، لذا فإن صادفت تلك السيدة جاسوسًا حقيقيًا يمشي حاملاً جواز سفر يشبه الجواز الليبي، فقد تفضله وتطمئن معه أكثر من أبناء الليبيات، لأن أوراقه سليمة من وجهة نظرها!

هل الليبيون طوائف؟

الخطأ الثاني هو وصف أبناء الليبيات بأنهم “طائفة”، ولا أعلم بأي حق مزقت نسيج المجتمع الليبي وحولته لطوائف، ووجهت تهمة العمالة لهم، ما يعد تحريضًا لبقية الشعب على وصمهم ووصم أمهم وبالتالي وصم أسرة أمهم وربما حتى قبيلة أمهم ولن ترضى قبيلة بوصم بناتها بأنهن “أمهات جواسيس”. فهل تعلم حقًا السيدة الحقوقية معنى كلمة طائفة؟

الطائفة بحسب اللغة هي “جزء من كل”، وإن ارتبطت بالبشر لا النبات والحيوان، فهي دائمًا ما تشير إلى أن هؤلاء يجمعهم فهم معين لنصوص دينية، أو أصول عرقية واحدة، وهو ما لا نجده في أبناء الليبيات، ما يعني أن الجهل بمعنى الكلمة قاد تلقائيًا إلى وصم أبناء الليبيات، والتحريض ضدهم، بوصفهم طائفة غير آمنة.

 

 

 

عند هذا الحد بدأ بقية المشاركين في الحلقة التلفزيونية في مقاطعة السيدة، لجعلها تدرك خطورة ما تقول، فوجهت سؤالًا غريبًا بحق لمحامٍ محترم شارك في البرنامج: “هل ممكن تزوج أختك لمصري أو سوداني أو بنغلاديشي؟”. سؤال فج وعنصري ويتصادم مباشرة مع الإسلام، الذي أباح الزواج بين المسلم والمسلمة، ويتصادم مع الشريعة: “يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّنْ ذَكَرٍ وَأُنْثىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ”، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض – إلا بالتقوى، الناس من آدم، وآدم من تراب”.

ما فعلته السيدة من تهديد في حقي وحق عدد آخر من منتقدي رأيها يُسمى “ممارسات إرهابية”؛ فالإرهاب ليس فقط تفجير المدنيين باسم الدين بل أيضًا تهديد المدنيين باسم السلطات الأمنية بدون وجه حق. وأنا أجزم أن الجيش الذي دافع عنا ضد أنصار الشريعة وداعش لن يرضى بأن يُجري تهديدنا باسمه لاختلافنا مع وجهة نظر سيدة تدعي أنها ابنته وتهدد باسمه.

انتهت الحلقة، وبدأ نشطاء حقوق الإنسان والأكاديميون الحقيقيون في السخرية مما جاء من أخطاء كارثية في الحلقة، ومنهم أنا. ففوجئت بالسيدة ترسل لي تهديدًا بأنني إن تحدثت عنها فإنني بذلك أتحدث عن القيادة العامة، رغم أنها ليست موظفة في الجيش وفقًا لما نعلم. وإن كانت، فإن التحدث باسم القيادة العامة إعلاميًا والتهديد باسمها دون إذن، أمر لا تتصالح معه القوانين العسكرية حول العالم. علاوة على أنها ارتكبت في حقي جنحة تهديد بموجب قانون العقوبات ووفق قانون الجرائم الإلكترونية.

لكن صراحة ما يُقلقني حقًا كيف يمكن أن يتجرأ شخص ويُهدد الرأي العام بالقيادة العامة لمجرد أنه انتقد آراءه التي تتصادم مع حقوق الطفل والمرأة وشريعة الإسلام التي أحلت للمسلمة الزواج بأي مسلم من أي مكان؟ من أعطاها الحق للحديث والتهديد باسم القيادة العامة؟ وأين القيادة العامة من هؤلاء الأشخاص الذين يزجون باسمها لتهديد المدنيين وتشويه صورتها وإغراقها في وحل لا نرضاه نحن لها ولا ترضاه هي لسمعتها ولتضحيات دماء الشهداء الطاهرة؟

لن أخوض في تفاصيل مُرهقة للعقل البشري المسكين، والقول بأن أغلب من يتحكمون في صناعة قرارنا السياسي اليوم هم مزدوجو الجنسية ولا أظنهم جواسيسًا.

ما فعلته السيدة من تهديد في حقي وحق عدد آخر من منتقدي رأيها يُسمى “ممارسات إرهابية”؛ فالإرهاب ليس فقط تفجير المدنيين باسم الدين بل أيضًا تهديد المدنيين باسم السلطات الأمنية بدون وجه حق. وأنا أجزم أن الجيش الذي دافع عنا ضد أنصار الشريعة وداعش لن يرضى بأن يُجري تهديدنا باسمه لاختلافنا مع وجهة نظر سيدة تدعي أنها ابنته وتهدد باسمه.

من المنطقي إجراء تحقيق شامل في ادعاءاتها، وإعادة النظر في الذين يتحدثون باسم جيش كل الليبيين. هذا هو مطلبي الشخصي، وأريد تطبيق القانون عليها، وهذا حقي كمواطنة ليبية دعمت جيشها في السراء والضراء، وتصدت لكل الشائعات التي طالتها من الإرهابيين لمجرد ممارسة حقها في تأييد جيشها ضد الإرهابيين.

وصم أبناء الليبية المتزوجة من أجنبي وتهديدهم بتُهم مُعلبة جاهزة في الحقيقة بمثابة منع الليبية من الزواج بأجنبي وهو تحريم صريح لشرع الله، الأمر الذي يُعد من الكبائر إلا لو أننا فضّلنا العرف والعادات والتقاليد عن كلام الله. فهنا سأقولها بصراحة: أنا لست منكم وأنتم لستم مني.

وبالعودة للجوسسة، لن أخوض في تفاصيل مُرهقة للعقل البشري المسكين، والقول بأن أغلب من يتحكمون في صناعة قرارنا السياسي اليوم هم مزدوجو الجنسية ولا أظنهم جواسيسًا، لكن للجوسسة جهاز يُدعى مكافحة الجوسسة وهو جهاز فعال للغاية في كل الدول يسعى لتتبع الجواسيس من الأجانب وأبناء البلد على حد سواء ويرصد تحركاتهم واجتماعاتهم داخل وخارج البلد وحتى الفنادق ذات الخمس نجوم هنا وهناك، ولا أظنه كجهاز سيكون لديه متسع من الوقت أن يرصد تحركات الأطفال أبناء الليبيات ومواعيد تغيير حفاظاتهم.

في الختام، كل ما يُعارض شرع الله من أفكار وآراء وهُراء فليذهب إلى الجحيم هو وكل من يُروج له بداعي العنصرية أو حتى الأمن القومي أو العادات والتقاليد. فقد قال صلى الله عليه وسلم: “لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض، إلا بالتقوى، الناس من آدم، وآدم من تراب” [رواه الترمذي (3270) وحسنه الألباني]. وفي الترمذي (1085) عنه صلى الله عليه وسلم: “إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوه، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير”. قالوا: يا رسول الله! وإن كان فيه؟ فقال: “إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، ثلاث مرات” [حسنه الألباني].

الدكتورة ريم البركي
دكتوراه في تاريخ العلاقات الدولية ماجستير في الأمن القومي والدراسات الجيوسياسية.
قد يعجبك ايضا
3 تعليقات
  1. Nooradeen يقول

    ماشاء الله عليك مقال يدرس بصراحة كفيتي ووفيت دكتورة نزيد في كلامك ان الملك إدريس رحمة الله عليه من أصل جزائري هل هو جاسوس؟

  2. محمود زقلام يقول

    أحسنتِ النشر.

    رغم تأكدي بأنها لا تستطيع التأثير على محيط بيتها فما بالك بالرأي العام.

  3. نورهان الطشاني يقول

    الحقيقة الأمر مضحك جدا عندما تقوم امرأة بالحديث عن أبناء الليبيّات بهكذا تمييز وعنصرية علما أنها تدّعي بأنها حقوقية ! ، لا أعلم حقا كيف استطاعت أن تتحدث هكذا وعلى الملأ ولكن ربما هي حقوقية في مجال حقوق الحيوان مثلا ، لا منطق في حديثها .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.