“التنمر” شبح قد يحول أطفالكم لمسوخ مشوهة وحاقدة
لا تقسوا على أطفالكم.. وابعدوا عنهم شبح التنمر الأسرى
ريم البركي
في منتصف التسعينات، اكتشفت أسرتي إصابة طفلتهم الجميلة «ريم» بمرض سلس البول الليلي، أو ما يُعرف بـ«التبول اللاإرادي» في أثناء النوم، بعد بلوغ عمر يتوقع فيه أن يبقى الإنسان جافًا في الليل.
حينها جن جنون بابا وذهب لطرق أبواب كل الأطباء دون استثناء.. أذكر أن جسمي الصغير النحيل تشبع آنذاك بالأدوية دون أي نتائج تذكر.. كنت مثلًا أتناول المضاد الحيوي لمدة 90 يومًا، لاشتباه في التهاب المثانة، ولا أذكر مكانًا واحدًا في ذراعي لم يتأثر بوخز الإبر لإجراء تحاليل طبية دورية كل أسبوع تقريبًا.. كان بابا رحمة الله عليه يهرول من طبيب إلى آخر.. ولم يفقد الأمل مطلقًا.
في المساء، كل ساعة يوقظني بابا للدخول للحمام، كان بانضباط الساعة السويسرية يتسلل لغرفتي يرفع الغطاء ويكرر الأمر كل ليلة.. يدخلني الحمام ويغيّر فراشي ويغطيني.. وتتكرر القصة غالبًا مرتين في الليلة الواحدة، لم ييأس، ماما كذلك؛ نوم متقطع، فهي تغسل كل شيء في الفجر قبل استيقاظ باقي اشقائي، وما تلبث أن نتهي معركتها الأولى حتى تجدني مبللة مرة أخرى.
أنا تعافيت فقط باحتواء أسرتي وحبهم لي بعد فضل الله.. لا تقسوا على أطفالكم.. وابعدوا عنهم شبح التنمر الأسرى
في سن الخامسة عشر تقريبًا، اقترح أحد الأطباء عليهم مرة، أن يتركوني في فراشي مبللة حتى الصباح، ويجبرونني على غسل ملابسي، ظنًا منه أنني كسولة ولا أذهب للحمام بإرادتي عندما أشعر برغبة في التبول، وأن أمرًا كهذا سيعتبر عقابًا لي، سأغير ما اعتبره الطبيب “دلع وكسل”.. خرج والدي غاضبًا من الطبيب، وهو يردد ”دكتور الهايـ…“.
في الصباح عندما كان أحد إخوتي يحاول المزاح معي بمنادتي “شخاخة”، كان يتعرض لضرب مُبرح من بابا ومقاطعة حاسمة من ماما.
والدي كان يعمل في شركة الزويتينة للنفط؛ وطبيعة عمله كانت العمل في الصحراء 14 يوم شهريًا بعيدًا عنا، في الصباح كالعادة كان يتصل بماما ليوقظنا من النوم.. يسألها وهي تجيب: “لا لا الحمد لله اليوم ما بلتش” تقولها بحزن شديد وصوت يأس واستشعر أنا صوت بابا الفرح من سماعة الهاتف: “باهي الحمدلله يارب، يبقي صحت”.. حتى يرجع من الصحراء ويكتشف أنه ماما كانت تكذب عليه، اسمعه وهو يقول لها: “معش تعيشيني في وهم يا نسمة” ويبدأ مجددًا في دورة الأطباء والكشوفات والتحاليل بدون ملل.
خالي سامي رحمة الله عليه، دكتور أنف وأذن وحنجرة، أخذني لكل دكاترة القصر العيني لإجراء كل الفحُوصات، كنت أستمع لخالي محمد وأنا في سن السابعة عشر وهو يردد لماما: “ماتخافيش، الطب يتطور كل يوم.. أكيد هيكون في علاج”.
هذه الكارثة التي أصابت أسرتي وكنت أنا السبب الوحيد فيها سرقت من عمر بابا وماما 15 سنة، من أجمل سنوات عمرهم، كل ليلة هم مجبرين على عدم النوم المنتظم والاستيقاظ كل 60 دقيقة تقريبًا لإدخالى للحمام، لكن غالبًا ما يصلوا متأخرًا.. على الأقل مرة واحدة في اليوم؛ لكن هذا لم يؤثر على علاقتهم معي سلبًا، وربما لهذا السبب بالتحديد فأنا لم أتعرض لأي عملية “تربية عنيفة” كنت طفلة وشابة مترفة ومرفهة و”خايبة من الدلع”.. حتى ذات صباح سنة 2008 خلال إجازة الصيف التي كنت أقضيها في القاهرة مع والدتي في بيت أجدادي، حينما اتصلت ماما بابا تزغرت، وهي تردد ريم الليلة ما بلتش، حينها كان عمرى 19 عامًا، ومن تلك الليلة انتهى كابوس عاشت فيه أسرتي طويلًا.
قد يتساءل البعض، ما جدوى طرح قصة خاصة بهذه الطريقة.. أعلم أن عددًا كبيرًا من الأطفال اليوم يعانون مما عانيت منه لأكثر من نصف عمري، وتحدثت مع أسر كثيرة تعاني من هذه الأزمة.. رسالتي لهم: أنا تعافيت فقط باحتواء أسرتي وحبهم لي بعد فضل الله.. لا تقسوا على أطفالكم.. وابعدوا عنهم شبح التنمر الأسرى فهم ليس لديهم أي ذنب في الأمر .. فترة وهتمر ولازم تأخذ وقتها.
نُشرت لأول مرة بتاريخ 5 أغسطس 2022 – بنغازي
أكرر نشرها، لأقول مجددًا: التنمر على أطفالكم شبح، قد يحولهم لمسوخ مشوهة وحاقدة، والتربية الصحيحة تحولهم لشجعان وناجحين وواثقين في قراراتهم وأنفسهم.. أنتم من تقررون مستقبل أبنائكم.. فلا تستخسرون فيهم العطف والحب والاحتواء.. توفير الطعام والمسكن ليس كل شيءٍ.